فصل: سئل: عن رجل يخرج من ذكره قيح لا ينقطع‏؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ باب نواقض الوضوء

 سُئِلَ ـ رحمه الله ـ عن رجل يخرج من ذكره قيح لا ينقطع‏:‏ فهل تصح صلاته مع خروج ذلك‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏

فأجاب‏:‏

لا يجوز أن يبطل الصلاة، بل يصلي بحسب إمكانه، فإن لم تنقطع النجاسة قدر ما يتوضأ ويصلي، صلى بحسب حاله بعد أن يتوضأ وإن خرجت النجاسة في الصلاة، لكن يتخذ حفَّاظًا يمنع من انتشار النجاسة‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وَسُئِلَ ـ رَحمه الله ـ عما إذا توضأ وقام يصلي وأحس بالنقطة في صلاته‏:‏ فهل تبطل صلاته أم لا‏؟‏

/فأجاب‏:‏

مجرد الإحساس لا ينقض الوضوء، ولا يجوز له الخروج من الصلاة الواجبة بمجرد الشك؛ فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يجد الشيء في الصلاة‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا‏)‏‏.‏

وأما إذا تيقن خروج البول إلى ظاهر الذكر فقد انتقض وضوؤه وعليه الاستنجاء، إلا أن يكون به سلس البول فلا تبطل الصلاة بمجرد ذلك إذا فعل ما أمر به‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئلَ ـ أيضًا ـ رحمَه الله ـ عن رجل كلما شرع في الصلاة يحدث له رياح كثيرة؛ حتى ‏[‏إنه‏]‏ في الصلاة يتوضأ أربع مرات أو أكثر، إلى حين يقضى الصلاة يزول عنه العارض، ثم لا يعود إليه إلا في أوقات الصلاة، وهو لا يعلم ما سبب ذلك‏؟‏‏:‏ هل هو من شدة حرصه على الطهارة‏؟‏ وقد يشق عليه كثرة الوضوء، وما يعلم هل حكمه حكم صاحب الأعذار أم لا لسبب أنه لا يعاوده إلا في وقت الصلاة‏؟‏ وما تطيب نفسه أن يصلي بوضوء واحد‏؟‏

/فأجاب ـ رضي الله عنه‏:‏

نعم، حكمه حكم أهل الأعذار‏:‏ مثل الاستحاضة وسلس البول، والمذى، والجرح الذي لا يرقأ، ونحو ذلك‏.‏ فمن لم يمكنه حفظ الطهارة مقدار الصلاة، فإنه يتوضأ ويصلي ولا يضره ما خرج منه في الصلاة، ولا ينتقض وضوؤه بذلك باتفاق الأئمة، وأكثر ما عليه أن يتوضأ لكل صلاة‏.‏

وقد تنازع العلماء في المستحاضة ومن به سلس البول وأمثالهما، مثل من به ريح يخرج على غير الوجه المعتاد، وكل من به حدث نادر‏.‏ فمذهب مالك‏:‏ أن ذلك ينقض الوضوء بالحدث المعتاد ـ ولكن الجمهور ـ كأبي حنيفة؛ والشافعي؛ وأحمد بن حنبل ـ يقولون‏:‏ إنه يتوضأ لكل صلاة أو لوقت كل صلاة‏.‏ رواه أهل السنن وصحح ذلك غير واحد من الحفاظ؛ فلهذا كان أظهر قولي العلماء أن مثل هؤلاء يتوضؤون لكل صلاة أو لوقت كل صلاة‏.‏

وأما ما يخرج في الصلاة دائمًا فهذا لا ينقض الوضوء باتفاق العلماء‏.‏ وقد ثبت في الصحيح‏:‏ أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تصلي والدم يقطر منها، فيوضع لها طست يقطر فيه الدم‏.‏ وثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ صلى وجرحه يثعب دما‏.‏ ومازال المسلمون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يصلون في جراحاتهم‏.‏

/وقد تنازع العلماء في خروج النجاسة من غير السبيلين ـ كالجرح والفصاد والحجامة والرعَاف والقيء‏:‏ فمذهب مالك والشافعي‏:‏ لا ينقض‏.‏ ومذهب أبي حنيفة وأحمد‏:‏ ينقض‏.‏ لكن أحمد يقول‏:‏ إذا كان كثيرًا‏.‏

وتنازعوا في مس النساء ومس الذكر‏:‏ هل ينقض‏؟‏ فمذهب أبي حنيفة‏:‏ لا ينقض‏.‏ ومذهب الشافعي‏:‏ ينقض‏.‏ ومذهب مالك‏:‏ الفرق بين المس لشهوة وغيرها‏.‏ وقد اختلفت الرواية عنه هل يعتبر ذلك في مس الذكر‏؟‏ واختلف في ذلك عن أحمد، وعنه ـ كقول أبي حنيفة ـ‏:‏ أنه لا ينقض شيء من ذلك وروايتان كقول مالك والشافعي‏.‏

واختلف السلف في الوضوء مِن ما مست النار‏:‏ هل يجب أم لا‏؟‏ واختلفوا في القهقهة في الصلاة‏:‏ فمذهب أبي حنيفة تنقض‏.‏ ومن قال‏:‏ إن هذه الأمور لا تنقض‏:‏ فهل يستحب الوضوء منها‏؟‏ على قولين‏.‏ وهما قولان في مذهب أحمد وغيره‏.‏

والأظهر ـ في جميع هذه الأنواع ـ‏:‏ أنها لا تنقض الوضوء، ولكن يستحب الوضوء منها‏.‏ فمن صلى ولم يتوضأ منها صحت صلاته‏.‏ ومن توضأ منها فهو أفضل‏.‏ وأدلة ذلك مبسوطة في غير هذا الموضع، ولكن كلهم يأمر بإزالة النجاسة، ولكن إن كانت من الدم أكثر من ربع/ المحل فهذه تجب إزالتها عند عامة الأمة، ومع هذا إن كان الجرح لا يرقأ مثل ما أصاب عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فإنه يصلي باتفاقهم؛ سواء قيل‏:‏ إنه ينقض الوضوء، أو قيل‏:‏ لا ينقض، سواء كان كثيرًا أو قليلًا؛ لأن الله ـ تعالى ـ يقول‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏)‏‏.‏

وكل ما عجز عنه العبد من واجبات الصلاة سقط عنه، فليس له أن يؤخر الصلاة عن وقتها، بل يصلي في الوقت بحسب الإمكان، لكن يجوز له ـ عند أكثر العلماء ـ أن يجمع بين الصلاتين لعذر، حتى أنه يجوز الجمع للمريض والمستحاضة وأصحاب الأعذار في أظهر قولي العلماء، كما استحب النبي صلى الله عليه وسلم للمستحاضة أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل واحد فهذا للمعذور، سواء أمكنه أن يجمع بين الصلاتين بطهارة واحدة من غير أن يخرج منه شيء في الصلاة، جاز له الجمع في أظهر قولي العلماء‏.‏

وكذلك يجمع المريض بطهارة واحدة إذا كانت الطهارة لكل صلاة تزيد في مرضه، ولابد من الصلاة في الوقت‏:‏ إما بطهارة إن أمكنه وإلا بالتيمم، فإنه يجوز لمن عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله إما لمرض وإما لشدة البرد أن يتيمم وإن كان جنبًا، ولا قضاء عليه في أظهر قولي /العلماء‏.‏ وإذا تيمم في السفر لعدم الماء لم يعد باتفاق الأئمة‏.‏

وكذلك المريض إذا صلى قاعدًا أو صلى على جنب لم يُعِد باتفاق العلماء‏.‏

وكذلك العريان‏:‏ كالذي تنكسر به السفينة، أو يأخذ القطاع ثيابه‏:‏ فإنه يصلي عريانا ولا إعادة عليه باتفاق العلماء‏.‏

وكذلك من اشتبهت عليه القبلة وصلى ثم تبين له فيما بعد ، لا يعيد باتفاق العلماء ، وإن أخطأ مع اجتهاده لم يعد ـ أيضًا ـ عند جمهورهـم‏:‏ كمالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل، والمشهور في مذهب الشافعي أنه يعيد‏.‏

وقد تنازع العلماء في التيمم لخشية البرد‏:‏ هل يعيد‏؟‏ وفيمن صلى في ثوب نجس لم يجد غيره‏:‏ هل يعيد‏؟‏ وفي مواضع أخر‏.‏

والصحيح في جميع هذا النوع‏:‏ أنه لا إعادة على أحد من هؤلاء، بل يصلي كل واحد على حسَب استطاعته ويسقط عنه ما عجز عنه، ولا إعادة عليه، ولم يأمر الله ـ تعالى ـ ولا رسوله أحدًا أن يصلي الفرض مرتين مطلقًا، بل من لم يفعل ما أمر به فعليه أن يصلي إذا ذُكِّر بوضوء باتفاق المسلمين‏:‏ كمن نسى الصلاة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏/ ‏(‏من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها‏)‏‏.‏ وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع‏.‏

والمقصود هنا بيان أن الله ـ تعالى ـ ما جعل على المسلمين من حرج في دينهم، بل هو ـ سبحانه ـ يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر‏.‏ ومسألة هذا السائل أولى بالرخصة، ولهذا كانت متفقًا عليها بين العلماء وهذه المسائل مبسوطة في مواضع أخر‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وَسُئِلَ عن رجل يصلي الخمس لا يقطعها ولم يحضر صلاة الجمعة، وذكر أن عدم حضوره لها أنه يجد ريحا في جوفه تمنعه عن انتظار الجمعة، وبين منزله والمكان الذي تقام فيه الجمعة قدر ميلين أو دونهما‏:‏ فهل العذر الذي ذكره كاف في ترك الجمعة مع قرب منزله‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏

فأجاب‏:‏

بل عليه أن يشهد الجمعة، ويتأخر بحيث يحضر ويصلي مع بقاء وضوئه‏.‏ وإن كان لا يمكنه الحضور إلا مع خروج الريح فليشهدها وإن خرجت منه الريح، فإنه لا يضره ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وَسُئِلَ عمن به قروح في بعض أعضاء الوضوء ويخرج من تلك القروح قيح ينتشر على محل الفرض في غير موضع القروح، ولا يمكن إزالة ذلك إلا إذا أزاله عن القروح ـ أيضًا ـ وهو يجد المشقة في إزالتها، والأطباء لا يرون في إزالتها مضرة على صاحب هذه القروح، غير أنه هو يجد الألم والمشقة في إزالة ذلك بسبب تكرار الوضوء، فهل يجب عليه إزالة ذلك ليصل الماء إلى ما تَسَتَّر من محل الفرض وإن كان عليه مشقة مع غلبة ظنه بعد تلك القروح أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، إذا كانت إزالته توجب زيادة المرض أو تأخر البرء لم يجب عليه إزالته‏.‏ وإن لم يكن فيه هذا ولا هذا أزاله، اللهم إلا أن يكون شيئا يسيرا من جنس الوسخ الذي على العين ونحو ذلك‏:‏ فليس عليه أن يزيل ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وَسُئِلَ عمن يرى أن القيء ينقض الوضوء، واستدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء مرة وتوضأ، وروى حديثًا آخر‏:‏ أنه قاء مرة فغسل فمه وقال‏:‏ ‏(‏هكذا الوضوء من القيء‏)‏‏:‏ فهل يعمل بالحديث الأول أم الثاني‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما الحديث الثاني فما سمعت به‏.‏

وأما الأول فهو في السنن، لكن لفظه‏:‏ ‏(‏أنه قاء فأفطر‏)‏، فذكر ذلك لثوبان فقال‏:‏ صدق، أنا صببت له وضوءه‏.‏ ولفظ الوضوء لم يجئ في كلام النبي صلى الله عليه وسلم إلا والمراد به الوضوء الشرعى، ولم يرد لفظ الوضوء بمعنى غسل اليد والفم إلا في لغة اليهود، فإنه قد روي أن سلمان الفارسي قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنا نجد في التوراة أن من بركة الطعام الوضوء قبله فقال‏:‏ ‏[‏من بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده‏]‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وَسُئِلَ عن الرُّعَاف‏:‏ هل ينقض الوضوء أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا توضأ منه فهو أفضل، ولا يجب عليه في أظهر قولي العلماء‏.‏

 وَسُئِلَ‏:‏هل ينقض الوضوء النوم جالسًا أم لا‏؟‏ وإذا كان الرجل جالسًا محتبيًا بيديه فنعس وانفلتت حبوته، وسقطت يده على الأرض، ومال لكنه لم يسقط جنبه إلى الأرض‏:‏ هل يجب عليه الوضوء أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، أما النوم اليسير من المتمكن بمقعدته فهذا لا ينقض الوضوء عند جماهير العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم، فإن النوم عندهم ليس بحدث في نفسه لكنه مظنة الحدث، كما دل عليه الحديث الذي في السنن‏:‏ ‏(‏العين وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء‏)‏ ، وفي /رواية‏:‏ ‏(‏فمن نام فليتوضأ‏)‏‏.‏

ويدل على هذا ما في الصحيحين‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام حتى ينفخ ثم يقوم فيصلي ولا يتوضأ، لأنه كان تنام عيناه ولا ينام قلبه، فكان يقظان‏.‏ فلو خرج منه شيء لشعر به‏.‏ وهذا يبين أن النوم ليس بحدث في نفسه؛ إذ لو كان حدثًا لم يكن فيه فرق بين النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، كما في البول والغائط وغيرهما من الأحداث‏.‏

وأيضًا، فإنه ثبت في الصحيح‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤخر العشاء، حتى كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفقون برؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضؤون‏.‏ فهذا يبين أن جلس النوم ليس بناقض؛ إذ لو كان ناقضًا لانتقض بهذا النوم الذي تخفق فيه رؤوسهم‏.‏

ثم بعد هذا للعلماء ثلاثة أقوال‏:‏

قيل‏:‏ ينقض ما سوى نوم القاعد مطلقًا، كقول مالك وأحمد في رواية‏.‏

وقيل‏:‏ لا ينقض نوم القائم والقاعد، وينقض نوم الراكع والساجد؛/ لأن القائم والقاعد لا ينفرج فيهما مخرج الحدث كما ينفرج من الراكع والساجد‏.‏

وقيل‏:‏ لا ينقض نوم القائم والقاعد والراكع والساجد، بخلاف المضطجع وغيره، كقول أبي حنيفة وأحمد في الرواية الثالثة‏.‏ لكن مذهب أحمد التقييد بالنوم اليسير‏.‏

وحجة هؤلاء‏:‏ حديث في السنن‏:‏ ‏(‏ليس الوضوء على من نام قائمًا أو قاعدًا أو راكعا أو ساجدًا لكن على من نام مضطجعًا‏)‏، فإنه إذا نام مضطجعًا استرخت مفاصله فيخرج الحدث، بخلاف القيام والقعود والركوع والسجود، فإن الأعضاء متماسكة غير مسترخية، فلم يكن هناك سبب يقتضي خروج الخارج‏.‏

وأيضًا، فإن النوم في هذه الأحوال يكون يسيرًا في العادة؛ إذ لو استثقل لسقط‏.‏ والقاعد إذا سقطت يداه إلى الأرض فيه قولان‏.‏ والأظهر في هذا الباب أنه إذا شك المتوضئ‏:‏ هل نومه مما ينقض أو ليس مما ينقض‏؟‏ فإنه لا يحكم بنقض الوضوء؛ لأن الطهارة ثابتة بيقين فلا تزول بالشك‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وَسُئِلَ‏:‏هل لمس كل ذكر ينقض الوضوء من الآدميين والحيوان‏؟‏ وهل باطن الكف هو ما دون باطن الأصابع‏؟‏

فأجاب‏:‏

لمس فرج الحيوان غير الإنسان لا ينقض الوضوء حيًا ولا ميتًا باتفاق الأئمة، وذكر بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي فيه وجهين‏.‏ وإنما تنازعوا في مس فرج الإنسان خاصة‏.‏

وبطن الكف يتناول الباطن كله بطن الراحة والأصابع‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ لا ينقض بحال‏:‏ كأبي حنيفة وأحمد في رواية‏.‏

 وَسُـئِل‏:‏َ عـن رجـل وقعت يده بباطن كفه وأصابعه على ذكره‏:‏ فهل ينتقض وضوؤه أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا لم يتعمد ذلك لم ينتقض وضوؤه‏.‏

/ وَسُئِل‏:‏َ عما إذا قبل زوجته أو ضمها فأمذى‏:‏ هل يلزمه وضوء أم لا‏؟

فأجاب‏:‏

أما الوضوء، فينتقض بذلك، وليس عليه إلا الوضوء، لكن يغسل ذكره وأنثييه‏.‏

 وَسُئِل‏:‏َ عن لمس النساء هل ينقض الوضوء أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، أما نقض الوضوء بلمس النساء فللفقهاء فيه ثلاثة أقوال‏:‏ طرفان ووسط‏.‏

أضعفها‏:‏ أنه ينقض ـ اللمس ـ وإن لم يكن لشهوة إذا كان الملموس مظنة للشهوة‏.‏ وهو قول الشافعي؛ تمسكا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، وفي القراءة الأخرى‏:‏ ‏[‏أو لمستم‏]‏‏.‏

/القول الثاني‏:‏ أن اللمس لا ينقض بحال وإن كان لشهوة‏.‏ كقول أبي حنيفة وغيره‏.‏ وكلا القولين يذكر رواية عن أحمد لكن ظاهر مذهبه كمذهب مالك، والفقهاء السبعة‏:‏ أن اللمس إن كان لشهوة، نقض وإلا فلا‏.‏ وليس في المسألة قول متوجه إلا هذا القول أو الذي قبله‏.‏

فأما تعليق النقض بمجرد اللمس فهذا خلاف الأصول، وخلاف إجماع الصحابة، وخـلاف الآثار‏.‏ وليس مع قائله نص ولا قياس‏.‏ فإن كان اللمس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء‏}‏،إذا أريد بـه اللمس باليد والقبلة ونحو ذلك ـ كما قاله ابن عمر وغيره ـ‏:‏ فقد علم أنـه حيث ذكر مثل ذلك في الكتاب والسـنة فإنما يراد به ما كان لشهـوة، مثـل قولـه في آيـة الاعتكاف‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏، ومباشرة المعتكف لغير شهوة لا تحرم عليه بخلاف المباشرة لشهوة‏.‏ وكذلك المحرم ـ الذي هو أشد ـ لو باشر المرأة لغير شهوة لم يحرم عليه ولم يجب عليه به دم‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏49‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 236‏]‏، فإنه لو مسها مسيسًا خاليًا من غير شهوة لم يجب به عدة، ولا يستقر به مهر، ولا تنتشر به حرمة المصاهرة باتفاق العلماء، بخلاف ما لو مس المرأة لشهوة/ولم يخل بها ولم يطأها‏:‏ ففي استقرار المهر بذلك نزاع معروف بين العلماء في مذهب أحمد وغيره‏.‏

فمن زعم أن قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، يتناول اللمس ـ وإن لم يكن لشهوة ـ فقد خرج عن اللغة التي جاء بها القرآن، بل وعن لغة الناس في عرفهم، فإنه إذا ذكر المس الذي يقرن فيه بين الرجل والمرأة علم أنه مس الشهوة، كما أنه إذا ذكر الوطء المقرون بين الرجل والمرأة علم أنه الوطء بالفرج لا بالقدم‏.‏

وأيضًا، فإنه لا يقول‏:‏ إن الحكم معلق بلمس النساء مطلقًا، بل بصنف من النساء وهو ما كان مظنة الشهوة‏.‏ فأما مس من لا يكون مظنة ـ كذوات المحارم والصغيرة ـ فلا ينقض بها‏.‏ فقد ترك ما ادعاه من الظاهر واشترط شرطًا لا أصل له بنص ولا قياس، فإن الأصول المنصوصة تفرق بين اللمس لشهوة واللمس لغير شهوة، لا تفرق بين أن يكون الملموس مظنة الشهوة أو لا يكون، وهذا هو المس المؤثر في العبادات كلها، كالإحرام والاعتكاف والصيام وغير ذلك وإذا كان هذا القول لا يدل عليه ظاهر اللفظ ولا القياس، لم يكن له أصل في الشرع‏.‏

وأما من علق النقض بالشهوة فالظاهر المعروف في مثل ذلك دليل/ له، وقياس أصول الشريعة دليل‏.‏ ومن لم يجعل اللمس ناقضًا بحال، فإنه يجعل اللمس إنما أريد به الجماع؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 237‏]‏، ونظائره كثيرة‏.‏وفي السنن‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ، لكن تكلم فيه‏.‏

وأيضًا، فمن المعلوم أن مس الناس نساءهم مما تعم به البلوى، ولا يزال الرجل يمس امرأته؛ فلو كان هذا مما ينقض الوضوء لكان النبي صلى الله عليه وسلم بينه لأمته؛ ولكان مشهورًا بين الصحابة، ولم ينقل أحد أن أحدًا من الصحابة كان يتوضأ بمجرد ملاقاة يده لامرأته أو غيرها، ولا نقل أحد في ذلك حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ فعلم أن ذلك قول باطل، والله أعلم‏.‏

 وَسُئِلَ عن مس النساء‏:‏ هل ينقض الوضوء أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

فيه ثلاثة أقوال للفقهاء‏:‏

أحدها‏:‏ أنه لا ينقض بحال، كقول أبي حنيفة وغيره‏.‏

/والثاني‏:‏ أنه إن كان له شهوة نقض وإلا فلا، وهو قول مالك وغيره من أهل المدينة‏.‏

والثالث‏:‏ ينقض في الجملة وإن لم يكن بشهوة، وهو قول الشافعي وغيره‏.‏

وعن أحمد بن حنبل ثلاث روايات كالأقوال الثلاثة، لكن المشهور عنه قول مالك‏.‏

والصحيح في المسألة أحد قولين؛ إما الأول وهو عدم النقض مطلقًا، وإما القول الثاني وهو النقض إذا كان بشهوة‏.‏ وأما وجوب الوضوء من مجرد مس المرأة لغير شهوة فهو أضعف الأقوال، ولا يعرف هذا القول عن أحد من الصحابة، ولا روى أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر المسلمين أن يتوضؤوا من ذلك؛ مع أن هذا الأمر غالب لا يكاد يسلم فيه أحد في عموم الأحوال؛ فإن الرجل لايزال يناول امرأته شيئًا وتأخذه بيدها، وأمثال ذلك مما يكثر ابتلاء الناس به، فلو كان الوضوء من ذلك واجبًا، لكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بذلك مرة بعد مرة ويشيع ذلك، ولو فعل لنقل ذلك عنه ولو بأخبار الآحاد، فلما لم ينقل عنه أحد من المسلمين أنه أمر أحدًا من المسلمين بشيء من ذلك ـ مع عموم البلوى به ـ علم أن ذلك غير واجب‏.‏

/وأيضًا،فلو أمرهم بذلك لكانوا ينقلونه ويأمرون به‏.‏ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه أمر بالوضوء من مجرد المس العارى عن شهوة، بل تنازع الصحابة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، فكان ابن عباس وطائفة يقولون‏:‏ الجماع، ويقولون‏:‏ الله حيى كريم يُكَنِّى بما يشاء عما شاء‏.‏ وهذا أصح القولين‏.‏

وقد تنازع عبد الله بن عمر والعرب وعطاء بن أبي رباح والموالي‏:‏ هل المراد به الجماع أو ما دونه‏؟‏ فقالت العرب‏:‏ هو الجماع‏.‏ وقالت‏:‏ الموالي هو ما دونه‏.‏ وتحاكموا إلى ابن عباس فصوب العرب وخطَّأ الموالي‏.‏

وكان ابن عمر يقول‏:‏ قُبلة الرجل امرأته ومسها بيده من الملامسة،وهذا قول مالك وغيره من أهل المدينة‏.‏ ومن الناس من يقول‏:‏ إن هذا قول ابن عمر وابن مسعود؛ لكونهما كانا لا يريان التيمم للجنب، فيتأولان الآية على نقض الوضوء، ولكن قد صرح في الآية أن الجنب يتيمم‏.‏

وقد ناظر أبو موسى ابن مسعود بالآية فلم يجبه ابن مسعود بشيء وقد ذكر ذلك البخاري في صحيحه، فَعُلِم أن ذلك كان من عدم استحضاره لموجب الآية‏.‏

/ومعلوم أن الصحابة الأكابر الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم لو كانوا يتوضؤون من مس نسائهم مطلقًا، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك، لكان هذا مما يعلمه بعض الصغار، كابن عمر وابن عباس وبعض التابعين، فإذا لم ينقل ذلك صاحب ولا تابع، كان ذلك دليلا على أن ذلك لم يكن معروفًا بينهم‏.‏ وإنما تكلم القوم في تفسير الآية، والآية إن كان المراد بها الجماع فلا كلام، وإن كان أريد بها ما هو أعم من الجماع فيقال‏:‏ حيث ذكر الله ـ تعالى ـ في كتابه مس النساء ومباشرتهن ونحو ذلك، فلا يريد به إلا ما كان على وجه الشهوة واللذة، وأما اللمس العارى عن ذلك فلا يعلق الله به حكما من الأحكام أصلا، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏، فنهى العاكف عن مباشرة النساء مع أن العلماء يعلمون أن المعتكف لو مس امرأته بغير شهوة لم يحرم ذلك عليه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه كان يدنى رأسه إلى عائشة ـ رضي الله عنها ـ فترجله وهو معتكف‏.‏ ومعلوم أن ذلك مظنة مسه لها ومسها له‏.‏

وأيضًا، فالإحرام أشد من الاعتكاف ولو مسته المرأة لغير شهوة لم يأثم بذلك ولم يجب عليه دم، وهذا الوجه يستدل به من وجهين‏:‏ من جهة ظاهر الخطاب، ومن جهة المعنى والاعتبار‏.‏ فإن خطاب الله ـ تعالى ـ /في القرآن بذكر اللمس والمس والمباشرة للنساء ونحو ذلك لا يتناول ما تجرد عن شهوة أصلا، ولم يتنازع المسلمون في شيء من ذلك إلا في آية الوضوء، والنزاع فيها متأخر، فيكون ما أجمعوا عليه قاضيًا على ما تنازع فيه متأخروهم‏.‏

وأما طريق الاعتبار فإن اللمس المجرد لم يعلق الله به شيئا من الأحكام، ولا جعله موجبًا لأمر، ولا منهيًا عنه في عبادة ولا اعتكاف ولا إحرام، ولا صلاة ولا صيام، ولا غير ذلك‏.‏ ولا جعله ينشر حرمة المصاهرة، ولا يثبت شيئًا غير ذلك، بل هذا في الشرع كما لو مس المرأة من وراء ثوبها ونحو ذلك من المس الذي لم يجعله الله سببًا لإيجاب شيء ولا تحريم شيء‏.‏

وإذا كان كذلك، كان إيجاب الوضوء بهذا مخالفًا للأصول الشرعية المستقرة، مخالفًا للمنقول عن الصحابة، وكان قولا لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، بل المعلوم من السنة مخالفته، بل هذا أضعف ممن جعل المنى نجسًا، فإن القول بنجاسة المنى ضعيف، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدًا بغسل ما يصيب بدنه أو ثيابه من المنى مع كثرة ما كان يصيب الناس من ذلك في حياته؛ وقد أمر الحائض أن تغسل ما أصاب ثوبها من الدم مع أن ذلك قليل بالنسبة لإصابة المنى للرجال، ولو كان ذلك واجبًا لبينه، بل كان يغسل ويمسح تقذرًا،/ كما كانت عائشة ـ رضي الله عنها ـ تارة تغسله وتارة تفركه من ثوبه صلى الله عليه وسلم‏)‏‏.‏

وكان سعد بن أبي وقاص وابن عباس يقولان‏:‏ أمطه عنك ولو بأذخرة فإنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وكانت عمرة تغسله من ثوبه‏.‏ فإن كان في اعتقاده نجاسة المنى، فهذا نزاع بين الصحابة، والسنة تفصل بينهم‏.‏ فإذا كانت نجاسة المنى ضعيفة في السنة لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك لعموم البلوى به‏.‏ لكن هذا أضعف لكون الصحابة لم يحك أحد منهم مجرد اللمس العارى عن الشهوة ناقضًا، وإنما تنازعوا في اللمس المعتاد للشهوة كالقبلة والغمز باليد ونحو ذلك‏.‏

وأيضًا، فإيجاب الوضوء من جنس اللمس كمس النساء ومس الذكر إن لم يعلل بكونه مظنة تحريك الشهوة، وإلا كان مخالفًا للأصول، فأما إذا عُلِّل بتحريك الشهوة، كان مناسبًا للأصول، وهنا للفقهاء طريقان‏:‏

أحدهما‏:‏ قول من يقول‏:‏ إن ذلك مظنة خروج الناقض، فأقيمت المظنة مقام الحقيقة‏.‏ وهذا قول ضعيف، فإن المظنة إنما تقام مقام الحقيقة إذا كانت الحكمة خفية وكانت المظنة تفضى إليها غالبا، وكلاهما معدوم، فإن الخارج لو خرج لعلم به الرجل‏.‏ وأيضًا، فإن مس الذكر لا يوجب خروج شيء في العادة أصلا؛ فإن المنى إنما يخرج بالاستمناء/ وذلك يوجب الغسل، والمذى يخرج عقيب تفكر ونظر ومس المرأة لا الذكر، فإذا كانوا لا يوجبون الوضوء بالنظر الذي هو أشد إفضاء إلى خروج المنى، فبمس الذكر أولى‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ اللمس سبب تحريك الشهوة كما في مس المرأة، وتحريك الشهوة يُتوضأ منه كما يتوضأ من الغضب وأكل لحم الإبل، لما في ذلك من أثر الشيطان الذي يطفأ بالوضوء؛ ولهذا قال طائفة من أصحاب أبي حنيفة‏:‏ إنما يتوضأ إذا انتشر انتشارًا شديدًا‏.‏ وكذلك قال طائفة من أصحاب مالك‏:‏ يتوضأ إذا انتشر، لكن هذا الوضوء من اللمس‏:‏ هل هو واجب أو مستحب‏؟‏ فيه نزاع بين الفقهاء ليس هذا موضع ذكره، فإن مسألة الذكر لها موضع آخر وإنما المقصود هنا مسألة مس النساء‏.‏

والأظهر ـ أيضًا ـ أن الوضوء من مس الذكر مستحب لا واجب، وهكذا صرح به الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، وبهذا تجتمع الأحاديث والآثار بحمل الأمر به على الاستحباب، ليس فيه نسخ قوله‏:‏ ‏(‏وهل هو إلا بضعة منك‏؟‏‏)‏، وحمل الأمر على الاستحباب أولى من النسخ‏.‏

وكذلك الوضوء مما مست النار مستحب في أحد القولين في/ مذهب أحمد وغيره، وبذلك يجمع بين أمره وبين تركه‏.‏ فأما النسخ فلا يقوم عليه دليل، بل الدليل يدل على نقيضه‏.‏ وكذلك خروج النجاسات من سائر البدن غير السبيلين كالوضوء من القيء، والرُّعَاف، والحجامة، والفِصاد، والجراح‏:‏ مستحب، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أنهم توضؤوا من ذلك ‏.‏ وأما الواجب فليس عليه في الكتاب والسنة ما يوجب ذلك‏.‏

وكذلك الوضوء من القهقة مستحب في أحد القولين في مذهب أحمد، والحديث المأثور في أمر الذين قهقهوا بالوضوء، وجهه أنهم أذنبوا بالضحك، ومستحب لكل من أذنب ذنبا يتوضأ ويصلي ركعتين كما جاء في السنن عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يذنب ذنبا فيتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر له‏)‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وَسُئِلَ عن الرجل يمس المرأة‏:‏ هل ينقض الوضوء أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

إن توضأ من ذلك المس فحسن، وإن صلى ولم يتوضأ صحت صلاته في أظهر قولي العلماء‏.‏

/ وَسُئِلَ شَيّخ الإسّلام ـ رَحمه الله‏:

إذا مس يد الصبي الأمرد‏:‏ فهل هو من جنس النساء في نقض الوضوء‏؟‏ وما جاء في تحريم النظر إلى وجه الأمرد الحسن‏؟‏ وهل هذا الذي يقوله بعض المخالفين للشريعة‏:‏ إن النظر إلى وجه الصبي الأمرد عبادة‏؟‏ وإذا قال لهم أحد ‏:‏ هذا النظر حرام ، يقول‏:‏ أنا إذا نظرت إلى هذا أقول‏:‏ سبحان الذي خلقه، لا أزيد على ذلك‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، إذا مس الأمرد لشهوة ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه كمس النساء لشهوة ينقض الوضوء‏.‏ وهو المشهور من مذهب مالك، ذكره القاضى أبو يعلى في شرح المذهب‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لا ينقض الوضوء، وهو المشهور من مذهب الشافعي‏.‏

والقول الأول أظهر، فإن الوطء في الدبر يفسد العبادات التي تفسد بالوطء في القبل‏:‏ كالصيام والإحرام والاعتكاف، ويوجب الغسل/ كما يوجبه هذا، فتكون مقدمات هذا في باب العبادات كمقدمات هذا‏.‏ فلو مس الأمرد لشهوة وهو محرم فعليه دم كما لو مس أجنبية لشهوة وكذلك إذا مسه لشهوة وجب أن يكون كما لو مس المرأة لشهوة في نقض الوضوء‏.‏

والذي لم ينقض الوضوء بمسه يقول‏:‏ إنه لم يخلق محلا لذلك، فيقال له‏:‏ لا ريب أنه لم يخلق لذلك وأن الفاحشة اللوطية من أعظم المحرمات، لكن هذا القدر لم يعتبر في باب الوطء، فإن وطئ في الدبر تعلق به ما ذكر من الأحكام وإن كان الدبر لم يخلق محلا للوطء، مع أن نُفرة الطباع عن الوطء في الدبر أعظم من نفرتها عن الملامسة، ونقض الوضوء بالمس يراعى فيه حقيقة الحكمة، وهو أن يكون المس لشهوة عند الأكثرين ـ كمالك وأحمد وغيرهما ـ كما يراعى مثل ذلك في الإحرام والاعتكاف وغير ذلك‏.‏ وعلى هذا القول، فحيث وجد اللمس لشهوة تعلق به الحكم، حتى لو مس أمه وأخته وبنته لشهوة انتقض وضوؤه‏:‏ فكذلك الأمرد‏.‏

وأما الشافعي ـ وأحمد في رواية ـ فيعتبر المظنة، وهو‏:‏ أن النساء مظنة الشهوة فينتقض الوضوء سواء بشهوة أو بغير شهوة، ولهذا لا ينقض لمس المحارم، لكن لو لمس ذوات محارمه لشهوة فقد وجدت حقيقة الحكمة، وكذلك إذا مس الأمرد لشهوة‏.‏

/والتلذذ بمس الأمـرد كمصافحتـه ونحـو ذلك،حرام بإجماع المسلمين‏.‏كما يحـرم التلذذ بمس ذوات محارمه والمرأة الأجنبية، بل الذي عليه أكثر العلماء أن ذلك أعظم إثما من التلذذ بالمرأة الأجنبية، كما أن الجمهور على أن عقوبة اللوطى أعظم من عقوبة الزنا بالأجنبية، فيجب قتل الفاعل والمفعول به، سواء كان أحدهما محصنًا أو لم يكن‏.‏ وسواء كان أحدهما مملوكا للآخر أو لم يكن، كما جاء ذلك في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمل به أصحابه من غير نزاع يعرف بينهم، وقتله بالرجم كما قتل الله قوم لوط بالرجم، وبذلك جاءت الشريعة في قتل الزانى‏:‏ أنه يرجم، فرجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعز بن مالك والغامدية، واليهوديين؛ والمرأة التي أرسل إليها أنيسًا وقال‏:‏ ‏(‏اذهب إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها‏)‏ فاعترفت فرجمها‏.‏

والنظر إلى وجه الأمرد لشهوة كالنظر إلى وجه ذوات المحارم والمرأة الأجنبية بالشهوة، سواء كانت الشهوة شهوة الوطء أو شهوة التلذذ بالنظر، فلو نظر إلى أمه وأخته وابنته بتلذذ بالنظر إليها كما يتلذذ بالنظر إلى وجه المرأة الأجنبية‏:‏ كان معلوما لكل أحد أن هذا حرام، فكذلك النظر إلى وجه الأمرد باتفاق الأئمة‏.‏

وقول القائل‏:‏ إن النظر إلى وجه الأمرد عبادة كقوله‏:‏ إن النظر إلى وجوه النساء أو النظر إلى وجوه محارم الرجل ـ كبنت الرجل/وأمه وأخته ـ عبادة،ومعلوم أن من جعل هذا النظر المحرم عبادة كان بمنزلة من جعل الفواحش عبادة ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏‏.‏

ومعلوم أنه قد يكون في صور النساء الأجنبيات وذوات المحارم من الاعتبار والدلالة على الخالق من جنس ما في صورة المرد‏:‏ فهل يقول مسلم‏:‏ إن للإنسان أن ينظر بهذا الوجه إلى صور نساء العالم وصور محارمه، ويقول‏:‏ إن ذلك عبادة‏؟‏ بل من جعل مثل هذا النظر عبادة، فإنه كافر مرتد يجب أن يستتاب فإن تاب، وإلا قتل، وهو بمنزلة من جعل إعانة طالب الفواحش عبادة، أو جعل تناول يسير الخمر عبادة، أو جعل السكر بالحشيشة عبادة‏.‏ فمن جعل المعاونة على الفاحشة بقيادة أو غيرها عبادة، أو جعل شيئًا من المحرمات التي يعلم تحريمها من دين الإسلام عبادة‏:‏ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل‏.‏ وهو مُضاهٍ للمشركين الذين ‏{‏وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وفاحشة أولئك إنما كانت طوافهم بالبيت عراة، وكانوا يقولون‏:‏ لا نطوف في الثياب التي عصينا الله فيها، فهؤلاء إنما كانوا يطوفون عراة على وجه اجتناب ثياب المعصية وقد ذكر عنهم ما ذكر فكيف بمن يجعل جنس الفاحشة المتعلقة بالشهوة عبادة‏؟‏‏!‏

/والله ـ سبحانة ـ قد أمر في كتابه بغض البصر، وهو نوعان‏:‏ غض البصر عن العورة، وغضها عن محل الشهوة‏.‏

فالأول‏:‏ كغض الرجل بصره عن عورة غيره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة‏)‏، ويجب على الإنسان أن يستر عورته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن حَيّدَة‏:‏ ‏(‏احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك‏)‏، قلت‏:‏ فإذا كان أحدنا مع قومه‏؟‏ قال‏:‏‏(‏إن استطعت ألا يرينها أحد فلا يرينها‏)‏، قلت‏:‏ فإذا كان أحدنا خاليًا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فالله أحق أن يستحيى منه من الناس‏)‏‏.‏ ويجوز أن يكشف بقدر الحاجة كما يكشف عند التخلي، وكذلك إذا اغتسل الرجل وحده بجنب ما يستره، فله أن يغتسل عريانًا كما اغتسل موسى عريانًا وأيوب، وكما في اغتساله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح واغتساله في حديث ميمونة‏.‏

وأما النوع الثاني من النظر‏:‏ كالنظر إلى الزينة الباطنة من المرأة الأجنبية، فهذا أشد من الأول، كما أن الخمر أشد من الميتة والدم ولحم الخنزير وعلى صاحبها الحد‏.‏ وتلك المحرمات إذا تناولها غير مستحل لها كان عليه التعزير؛ لأن هذه المحرمات لا تشتهيها النفوس كما تشتهى الخمر، وكذلك النظر إلى عورة الرجل لا يشتهى كما يشتهى النظر إلى /النساء ونحوهن، وكذلك النظر إلى الأمرد بشهوة هو من هذا الباب‏.‏ وقد اتفق العلماء على تحريم ذلك كما اتفقوا على تحريم النظر إلى الأجنبية وذوات المحارم لشهوة، والخالق ـ سبحانه ـ يسبح عند رؤية مخلوقاته كلها وليس خلق الأمرد بأعجب في قدرته من خلق ذى اللحية، ولا خلق النساء بأعجب في قدرته من خلق الرجال، بل تخصيص الإنسان التسبيح بحال نظره إلى الأمرد دون غيره‏:‏ كتخصيصه التسبيح بنظره إلى المرأة دون الرجل، وما ذاك لأنه دل على عظمة الخالق عنده، ولكن لأن الجمال يغير قلبه وعقله، وقد يذهله ما رآه فيكون تسبيحه بما يحصل في نفسه من الهوى‏.‏ كما أن النسوة لما رأين يوسف ‏{‏أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم‏)‏‏.‏ وإذا كان الله لا ينظـر إلى الصور والأموال وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال، فكيف يفضل الشخص بما لم يفضله الله به‏؟‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 131‏]‏، وقال في المنافقين‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ إني يُؤْفَكُونَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 4‏]‏، فإذا كان هؤلاء المنافقون الذين تعجب الناظر أجسامهم لما فيهم من البهاء والرواء والزينة الظاهرة ـ وليسوا ممن ينظر إليه لشهوة ـ قد ذكر الله عنهم ما ذكر، فكيف بمن ينظر إليه لشهوة‏؟‏ وذلك أن الإنسان قد ينظر إليه لما فيه من الإيمان والتقوى؛ وهنا الاعتبار بقلبه وعمله لا بصورته وقد ينظر إليه لما فيه من الصورة الدالة على المصور فهذا حسن‏.‏ وقد ينظر إليه من جهة استحسان خلقه كما ينظر إلى الجبل والبهائم، وكما ينظر إلى الأشجار، فهذا ـ أيضًا ـ إذا كان على وجه استحسان الدنيا والرياسة والمال، فهو مذموم؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 131‏]‏‏.‏

وأما إن كان على وجه لا ينقص الدين وإنما فيه راحة النفس فقط ـ كالنظر إلى الأزهار ـ فهذا من الباطل الذي يستعان به على الحق‏.‏

وكل قسم من هذه الأقسام متى كان معه شهوة كان حرامًا بلا ريب، سواء كانت شهوة تمتع بنظر الشهوة أو كان نظرا بشهوة الوطء‏.‏ وفَرق بين ما يجده الإنسان عند نظره الأشجار والأزهار وما يجده عند نظره النسوان والمردان؛ فلهذا الفرقان افترق الحكم الشرعي فصار النظر إلى المرد ثلاثة أقسام‏:‏

/أحدها‏:‏ ما يقرن به الشهوة فهو حرام بالاتفاق‏.‏

والثاني‏:‏ ما يجزم أنه لا شهوة معه‏:‏ كنظر الرجل الورع إلى ابنه الحسن وابنته الحسنة وأمه، فهذا لا يقرن به شهوة إلا أن يكون الرجل من أفجر الناس، ومتى اقترنت به الشهوة حرم‏.‏

وعلى هذا، من لا يميل قلبه إلى المرد ـ كما كان الصحابة، وكالأمم الذين لا يعرفون هذه الفاحشة ـ فإن الواحد من هؤلاء لا يفرق بين هذا الوجه وبين نظره إلى ابنه وابن جاره وصبى أجنبى، ولا يخطر بقلبه شيء من الشهوة لأنه لم يعتد ذلك وهو سليم القلب من مثل ذلك، وقد كانت الإماء على عهد الصحابة يمشين في الطرقات وهن متكشفات الرؤوس وتخدم الرجال مع سلامة القلوب، فلو أراد الرجال أن يترك الإماء التركيات الحسان يمشين بين الناس، في مثل هذه البلاد والأوقات كما كان أولئك الإماء يمشين، كان هذا من باب الفساد‏.‏

وكذلك المرد الحسان لا يصلح أن يخرجوا في الأمكنة والأزمنة التي يخاف فيها الفتنة بهم إلا بقدر الحاجة، فلا يمكن الأمرد الحسن من التبرج ولا من الجلوس في الحمام بين الأجانب، ولا من رقصه بين الرجال، ونحو ذلك مما فيه فتنة للناس، والنظر إليه كذلك‏.‏

وإنما وقع النزاع بين العلماء في القسم الثالث من النظر، وهو‏:‏/ النظر إليه لغير شهوة لكن مع خوف ثورانها‏.‏ فيه وجهان في مذهب أحمد، أصحهما ـ وهو المحكي عن نص الشافعي ـ أنه لا يجوز‏.‏ والثاني‏:‏ يجوز لأن الأصل عدم ثورانها فلا يحرم بالشك، بل قد يكره‏.‏

والأول هو الراجح، كما أن الراجح في مذهب الشافعي وأحمد أن النظر إلى وجه الأجنبية من غير حاجة لا يجوز وإن كانت الشهوة منتفية، لكن لأنه يخاف ثورانها؛ ولهذا حرمت الخلوة بالأجنبية لأنها مظنة الفتنة، والأصل أن كل ما كان سببًا للفتنة فإنه لا يجوز‏.‏ فإن الذريعة إلى الفساد يجب سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة؛ ولهذا كان النظر الذي يفضى إلى الفتنة محرما إلا إذا كان لمصلحة راجحة، مثل نظر الخاطب والطبيب وغيرهما، فإنه يباح النظر للحاجة لكن مع عدم الشهوة‏.‏

وأما النظر لغير حاجة إلى محل الفتنة فلا يجوز‏.‏

ومن كرر النظر إلى الأمرد ونحوه أو أدامه وقال‏:‏ إني لا أنظر لشهوة، كذب في ذلك؛ فإنه إذا لم يكن معه داع يحتاج معه إلى النظر لم يكن النظر إلا لما يحصل في القلب من اللذة بذلك، وأما نظرة الفجأة فهى عفو إذا صرف بصره، كما ثبت في الصحيح عن جرير قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال‏:‏/‏(‏اصرف بصرك‏)‏‏.‏ وفي السنن أنه قال لعلي ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ ‏(‏يا علي، لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية‏)‏‏.‏

وفي الحديث الذي في المسند وغيره‏:‏ ‏(‏النظر سهم مسموم من سهام إبليس‏)‏‏.‏ وفيه‏:‏ ‏(‏من نظر إلى محاسن امرأة ثم غض بصره عنها أورث الله قلبه حلاوة عبادة يجدها إلى يوم القيامة‏)‏ أو كما قال‏.‏ ولهذا يقال‏:‏ إن غض البصر عن الصورة التي نهى عن النظر إليها ـ كالمرأة والأمرد الحسن ـ يورث ذلك ثلاث فوائد جليلة القدر‏:‏

إحداها‏:‏ حلاوة الإيمان ولذته التي هى أحلى وأطيب مما تركه لله، فإن من ترك شيئًا للَّه عوضه الله خيرًا منه، والنفس تحب النظر إلى هذه الصور لاسيما نفوس أهل الرياضة والصفا، فإنه يبقى فيها رقة تجتذب بسببها إلى الصور، حتى تبقى تجذب أحدهم وتصرعه كما يصرعه السبع؛ ولهذا قال بعض التابعين‏:‏ ما أنا على الشاب التائب من سبع يجلس إليه بأخوف عليه من حدث جميل يجلس إليه‏!‏ وقال بعضهم‏:‏ اتقوا النظر إلى أولاد الملوك فإن لهم فتنة كفتنة العذارى‏.‏

ومازال أئمة العلم والدين ـ كشيوخ الهدى وشيوخ الطريق ـ يوصون بترك صحبة الأحداث حتى يروى عن فتح الموصلي أنه قال‏:‏/صحبت ثلاثين من الأبدال كلهم يوصيني عند فراقه بترك صحبة الأحداث وقال بعضهم‏:‏ ما سقط عبد من عين الله إلا بصحبة هؤلاء الأنتان‏.‏

ثم النظر يؤكد المحبة، فيكون علاقة لتعلق القلب بالمحبوب، ثم صبابة لانصباب القلب إليه، ثم غرامًا للزومه للقلب كالغريم الملازم لغريمه، ثم عشقا إلى أن يصير تتيمًا، والمتيم المعبد، وتيم الله‏:‏ عبد الله، فيبقى القلب عبدًا لمن لا يصلح أن يكون أخا بل ولا خادمًا، وهذا إنما يبتلى به أهل الإعراض عن الإخلاص للَّه كما قال تعالى في حق يوسف‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 24‏]‏، فامرأة العزيز كانت مشركة فوقعت مع تزوجها فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف ـ عليه السلام ـ مع عزوبته ومراودتها له واستعانتها عليه بالنسوة وعقوبتها له بالحبس على العفة ـ عصمه الله بإخلاصه لله؛ تحقيقًا لقوله‏:‏ ‏{‏وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏39، 40‏]‏، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏، والغي‏:‏ هو اتباع الهوى‏.‏

وهذا الباب من أعظم أبواب اتباع الهوى‏.‏ ومن أمر بعشق الصور من المتفلسفة كابن سينا وذويه، أو من الفرس كما يذكر عن بعضهم؛ أو من جهال المتصوفة، فإنهم أهل ضلال وغي، فهم مع مشاركة اليهود في الغي والنصارى في الضلال زادوا على الأمتين في ذلك، فإن/ هذا ـ وإن ظن أن فيه منفعة للعاشق كتطليق نفسه وتهذيب أخلاقه، وللمعشوق من الشفاء في مصالحه وتعليمه وتأديبه وغير ذلك ـ فمضرة ذلك أضعاف منفعته‏.‏ وأين إثم ذلك من منفعته‏؟‏ وإنما هذا كما يقال‏:‏ إن في الزنا منفعة لكل منهما بما يحصل له من التلذذ والسرور، ويحصل لها من الجعل وغير ذلك‏!‏ وكما يقال‏:‏ إن في شرب الخمر منافع بدنية ونفسية‏.‏ وقد قال في الخمر والميسر‏:‏ ‏{‏قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏، وهذا قبل التحريم‏.‏ دع ما قاله عند التحريم وبعده‏.‏

وباب التعلق بالصور هو من جنس الفواحش، وباطنه من باطن الفواحش وهو من باطن الإثم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 120‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏، وقد قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وليس بين أئمة الدين نزاع في أن هذا ليس بمستحب كما أنه ليس بواجب، فمن جعله ممدوحًا وأثنى عليه فقد خرج من إجماع المسلمين، بل واليهــود والنصــارى، بل وعما عليه عقـلاء بنى آدم مـن جميـع الأمم، وهـو ممـن اتبع هـــواه بغير هـدى من الله، ‏{‏فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 50‏]‏، وقـد قـال/ تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏40، 41‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وأما من نظر إلى المرد ظانًا أنه ينظر إلى الجمال الإلهى وجعل هذا طريقًا له إلى الله ـ كما يفعله طوائف من المدعين للمعرفة ـ فقوله هذا أعظم كفرًا من قول عباد الأصنام ومن كفر قوم لوط، فهؤلاء من شر الزنادقة المرتدين الذين يجب قتلهم بإجماع كل الأمة؛ فإن عُباد الأصنام قالوا‏:‏ ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏، وهؤلاء يجعلون الله موجودًا في نفس الأصنام وحالا فيها، فإنهم لا يريدون بظهوره وتجليه في المخلوقات أنها دالة عليه وآيات لهم؛ بل يريدون أنه ـ سبحانه ـ هو ظهر فيها وتجلى فيها، ويشبهون ذلك بظهور الماء في الزجاجة، والزبد في اللبن، والزيت في الزيتون، والدهن في السمسم؛ ونحو ذلك مما يقتضى حلول نفس ذاته في مخلوقاته أو اتحاده بها في جميع المخلوقات، نظير ما قالته النصارى في المسيح خاصة، يجعلون المرد مظاهر الجمال فيقررون هذا الشرك الأعظم طريقًا إلى استحلال الفواحش، بل إلى استحلال كل محرم، كما قيل لأفضل متأخريهم ـ التلمسإني ـ‏:‏ إذا كان قولكم بأن الوجود واحد هو الحق، فما الفرق بين أمى وأختى/ وابنتى‏:‏ تكون هذه حلالا وهذه حراما‏؟‏ فقال الجميع عندنا سواء، لكن هؤلاء المحجوبون قالوا‏:‏ حرام‏.‏ فقلنا‏:‏ حرام عليكم‏!‏

ومن هؤلاء الحلولية والاتحادية من يخص الحلول والاتحاد ببعض الأشخاص‏:‏ إما ببعض الأنبياء كالمسيح، أو ببعض الصحابة كقول الغالية في على، أو ببعض الشيوخ كالحلاجية ونحوهم، أو ببعض الملوك، أو ببعض الصور كصور المرد، ويقول أحدهم‏:‏ أنا أنظر إلى صفات خالقى وأشهدها في هذه الصورة‏.‏

والكفر في هذا القول أبين من أن يخفي على من يؤمن باللَّه ورسوله، ولو قال مثل هذا الكلام في نبى كريم، لكان كافرًا، فكيف إذا قاله في صبى أمرد‏؟‏ فقبح الله طائفة يكون معبودها من جنس موطوئها‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 80‏]‏، فإذا كان من اتخذ الملائكة والنبيين أربابًا مع اعترافهم بأنهم مخلوقون للَّه كفارًا‏:‏ فكيف بمن اتخذ بعض المخلوقات أربابا مع قوله‏:‏ إن الله فيها أو متحد بها‏؟‏ فوجودها وجوده ونحو ذلك من المقالات‏؟‏

وأما الفائدة الثانية في غض البصر فهو‏:‏ أنه يورث نور القلب والفراسة، قال تعالى عن قوم لوط‏:‏ ‏{‏لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 27‏]‏،/ فالتعلق في الصور يوجب فساد العقل وعمى البصيرة وسكر القلب، بل جنونه كما قيل‏:‏

سكران‏:‏ سكر هوى، وسكر مدامة ** فمتى إفاقة من به سكــران‏؟‏

وقيل‏:‏

قالوا‏:‏ جننت بمن تهوى‏؟‏ فقلت لهم‏:‏ ** العشق أعظـم ممــا بالمجانين

العشق لا يستفيــــق الدهــر صاحبـه ** وإنما يصرع المجنون في الحين

وذكر ـ سبحانه ـ آية النور عقيب آيات غض البصر فقال‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏، وكان شاه بن شجاع الكِرْمإني لا تخطئ له فراسة، وكان يقول‏:‏ من عَمَّر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، وذكر خصلة خامسة وهى أكل الحلال، لم تخطئ له فراسة‏.‏ والله ـ تعالى ـ يجزى العبد على عمله بما هو من جنس عمله فغض بصره عما حرم يعوضه الله عليه من جنسه بما هو خير منه، فيطلق نور بصيرته ويفتح عليه/ باب العلم والمعرفة والكشوف ونحو ذلك مما ينال بصيرة القلب‏.‏

والفائدة الثالثة‏:‏ قوة القلب وثباته وشجاعته، فيجعل الله له سلطان النصرة مع سلطان الحجة‏.‏ وفي الأثر‏:‏ الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله، ولهذا يوجد في المتبع لهواه من الذل ـ ذل النفس وضعفها ومهانتها ـ ما جعله الله لمن عصاه فإن الله جعل العزة لمن أطاعه والذلة لمن عصاه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 139‏]‏‏.‏

ولهذا كان في كلام الشيوخ‏:‏ الناس يطلبون العز من أبواب الملوك ولا يجدونه إلا في طاعة الله‏.‏ وكان الحسن البصرى يقول‏:‏ وإن هَمْلَجَت بهم البراذين وطقطقت بهم البغال فإن ذل المعصية في رقابهم، يأبى الله إلا أن يذل من عصاه‏.‏ ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه، ومن عصاه ففيه قسط من فعل من عاداه بمعاصيه‏.‏ وفي دعاء القنوت‏:‏ ‏(‏إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت‏)‏‏.‏

والصوفية المشهورون عند الأمة الذين لهم لسان صدق في الأمة لم يكونوا يستحبون مثل هذا، بل ينهون عنه، ولهم في الكلام في ذم صحبة الأحداث، وفي الرد على أهل الحلول، وبيان مباينة الخالق للمخلوق،/ ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، وإنما استحسنه من تشبه بهم ممن هو عاص أو فاسق أو كافر، فتظاهر بدعوى الولاية للَّه وتحقيق الإيمان والعرفان وهو من شر أهل العداوة للَّه وأهل النفاق والبهتان‏.‏

والله ـ تعالى ـ يجمع لأوليائه المتقين خير الدنيا والآخرة، ويجعل لأعدائه الصفقة الخاسرة‏.‏ والله أعلم‏.‏